شيء ما لم يكن مفهوماً في ذلك الصباح الباهت ، لم تكن ثمة عصافير … أو رنين … أو نسمات ، ولا حتى ثرثرة ، تلك الثرثرة التي تبدأ بها صباحها ، قبل أن تلقي بفتنتها على الكرسي خلف مكتبها الكبير ، ولا أسئلتها الحميمة توزعها على نسرين وأحمد وولاء :
_ كيف حال أمك نسرين ، تحسّنت انشا الله ؟ تسحب كرسياً ، تجلس قربها ، تهمس (إذا محتاجي مصاري لا تهتمي …. خبّريني )
تنهض ، تسبقها الزنابق إلى طاولة أحمد :
– ها…كيفو زلمة المكتب اليوم ؟
تجلس على زاوية الطاولة ، تعبث يدها بأوراق مرميّة فوقها ، تسأل عن أشياء كثيرة، تترك الموظف الشاب نهب قدِّها الأربعيني الآسر ، وحنانها الدافق .
فوق طاولتها ترتِّب الأشياء النائمة بانتظارها ، وقبل أن تبدأ بتفقِّد بريدها تلتفت نحو ولاء :
– شو يا ليلى .. بدّو يشرّفنا قيس اليوم ؟؟ يقهقه الجميع فتصطبغ ليلى بالورود وتعبق بالحب .
من الشبَّاك الشرقي العريض تتسرّب الخطوط الذهبية لسيِّدة الأرض ، تفترش الحائط المقابل وتنعكس في سماء الغرفة فتختلط بعطرها ورنين صوتها وهو يتسرَّب في القلوب التي تعزف سيمفونية الحياة في المكتب الإداري لشركة البناء .
يبتلع المراجعون الوقت فارضين إيقاعاً مربكاً لساعات النهار الطويلة ، وحدها مدام هدى تعرف كيف تمتصّ أنّاتهم ،وتلمُّ شكاويهم من الأختام والتواقيع بهدوئها واِبتسامتها العذبة ، تمضي يومها في إتمام المعاملات واستكمال الأوراق ، تطير من مكتب إلى آخر مثل فراشة ، تشرح لموظّفيها ما خفي عنهم ، تمازحهم ، تشرف على أعمالهم ، وحين ينتصف النهار ، تسرق حفنة من الوقت ،تكفيها لتحضير قهوة زائرها اليومي الذي لم يحضر منذ يومين أو أكثر .
2006
في الخاصرة
عند قدميه الصغيرتين تكوَّرت .. وتساقط دفء عينيها :
– يقصف عمري .. تنكسر إيدي ان شالله
لكن سعيداً كان ينام ملء جفنيه عصفورا ً أنهكه الطيران ، يطبق وروده السبع على حلمه المؤجل ، وخيوط شفيفة حمراء تراصفت على خده الطريّ يمرّ بينها خيط رفيع من ملح دموعه ، وآثاره عالقة على الوجنة الصغيرة .
عويل الريح في الخارج كان ينذر بالبرد ، دثّرته جيداً ، وخرجت….
– شو بدي إعمل بهالليل ؟؟؟؟؟؟
كان قلبها يحترق ….
لم تحتمل أصابعه وهو يلكز خاصرتها ذلك المساء ، صبيّة التمّت مع جاراتها حول الطاولة ، تدور القهوة بينهن ، يبصّرن .. يثرثرن … ينثرن همومهنّ ، وكنّ قد أوقفن دور الورق قليلاً ، وهنّ يستمعن للدَّاية تقص عليهنّ ما حدث في ولادة زوجة الأستاذ :
– دخل علينا ونحنا مجتمعين عندها بالغرفة ، وصاح ، سعاد .. بدّك تفضحينا بالحارة ؟؟ الّلي راح مقطوع منّو النصيب .. كبّري عقلك .
– ماما .. ماما …
أصابعه الطرية تنبش الخاصرة….
_ يقصف عمرو ما أقسى قلبو … فوق همها ؟؟
– مامااااااااااااااااااا .. ماما بدّي هريـــــ
ابتلعت الهمهمات صوته الرفيع ، تنهّدن .. زفرن … علت أصواتهن :
– شو معثّرة الحرمه……
_ ………………..
- يقطع الحَبَل والأولاد
– ماما… يا ماما … ماما .. بدّي …
في خاصرتها وخز ممضّ ، الآن استشعرته تماماً ، ثمة دمعة عبرت صفحة خدها ، التفتت فجأةً نحوه :
– وسمّ ان شا الله .. انقبر إنت والهريسي .
حين هوت صفعتها على خدِّه صرخت بها الداية :
– يكسر إيدك يا سعدة……
لم تحتمل انتظار الصبح ، وضعته في حضنها … أيقظته :
– قوم يا روحي قوم ….. جبتلّك هريسي …
7/3/2008
مهند الخالد
نصان قصصيان من مجموعته القصصية ساعات الليل